أميلي نوتومب، مغنّي النّو ذو العيون الزرقاء


أميلي نوتومب
مغنّي النّو ذو العيون الزرقاء[1]
ترجمة محمّد آيت حنّا

مع يونيو/حزيران أتت الحرارة. (..) وصار الجوّ يسمح بعروض الهواء الطّلق. أخبروني أنّنا كنّا جميعاً مدعوّين إلى الذهاب لسماع أبي يغنّي.
- بابا يغنّي؟
- يغنّي النّو.
- وما النّو؟
- سترينَ بنفسك.
لم يسبق لي قطّ أن سمعت أبي يغنّي: ربّما كان يعتزل ليتمرّن، أو ربّما كان يفعل ذلك بمدرسته، صحبة أستاذ النّو.
عشرون سنةً بعد ذلك عرفتُ، أيّ صدفةٍ فريدةٍ قادت صانعَ حياتي، الذي لم يكن ثمّة ما يهيّئه لخوض تجربة الغناء، إلى أن يصير مغنيَ نو. لقد وصل إلى أوساكا سنة 1967، باعتباره قنصلاً لبلجيكا. كان ذاك أوّل منصبٍ يشغله بآسيا، وما إن وصل حتّى ألّف بين قلبه وقلب البلد حبٌّ من أوّل نظرة. صارت اليابان، وظلّت، حبّ حياته.
بحماسة المنضمّ حديثاً، أراد والدي أن يستكشف كلّ عجائب الإمبراطوريّة. وإذ لم يكن يتكلّم اللّغة بعدُ، كانت ترافقه مترجمة يابانيّة بارعة، أينما حلّ وارتحل. وكانت أيضاً تؤدّي وظيفة الدّليل، وتدعوه إلى مختلف الفنون الوطنيّة. وإذ آنسَتْ فيه روحاً متنوّرة، خطر لها أن تكشف أمامه إحدى دُرَر التقاليد اليابانيّة التي لا يبلغها أيّ كان: النّو. كان الغربيّون، في ذاك الزّمن، ذوي عقول مستغلقة، لدرجة أنّ ما كان يناسبهم هو مسرح الكابوكي[2].
اصطحَبَته إذن إلى إحدى مدارس النّو المبجّلة بكانساي، والتي كان مدرّسها كنزاً حيّاً. تملّك والدي الانطباع بأنّه قد عاد ألف سنةٍ إلى الوراء. وازداد انطباعه حدّةً حين استمع إلى النّو: في البدء، خاله دمدمةً قادمةً من سحيق العصور. شعر بذاك القلق الجذل الذي نحسّه في المتاحف حيث يُعاد تشخيص المشاهد التي تعود إلى ما قبل التّاريخ.
شيئاً فشيئاً، بدأ يدرك أنّ الأمر على نقيض ذلك تماماً، وأنّه في حضرة الرّقيّ متجسّداً، وأنّه ليس ثمّة ما هو أكثر رهافةً وتحضّراً. لم يعد يفصله عن بلوغ ذاك الجمال، سوى خطوةٍ يقطعُها.
على الرّغم من غرابة تلك الأصوات التي أثارت في نفسه الرّهبة، إلاّ أنّه حافظ على التعابير الوسيمة الفاتنة التي تميّز دبلوماسيّاً فعليّاً. طيلة اللّحن الشجيّ، الذي امتدّ بالطّبع ساعات، لم يصدر عنه أدنى تعبير عن الملل الذي أحسّ به.
أثناء ذلك، كان حضوره قد أثار حيرة المدرسة بأكملها. وانتهى المطاف بشيخ النو العجوز إلى أن قصَدَه يقول:
- ضيفنا المحترم، إنّها المرة الأولى التي يقتحم فيها غريبٌ هذا المكان. هل لي أن ألتمس رأيكَ في ما سمعته من غناء؟
أدّت المُترجمة مهمّتها.
في خضمّ جهله، ارتجل أبي بعض الكليشيهات اللّطيفة، حول أهميّة الثقافة العريقة، ومدى غنى التراث الفنيّ لهذا البلد، والمزيد من الهراء الذي يفوق بعضه بعضاً من حيث قوّة تأثيره.
جزِعةً، قرّرت المترجمة ألا تترجم كلاماً بذاك القدر من البلادة. استبدلت تلك اليابانيّةُ المتعلّمةُ إذن كلامها بكلامِ مؤلّفِ حياتي، وعبّرت عن ذلك بكلمات مختارة.
وبقدر ما كانت تمضي في <<ترجمتها>>، كانت عينا المعلّم الشّيخ تزدادان اتّساعاً. ماذا! هذا الأبيض الغِرّ الذي بالكاد أتى بلدنا، والذي سمع النّو للمرّة الأولى في حياته، قد فهم بهذا القدر من الفهم جوهر ورهافة هذا الفنّ الأسمى!
وبحركة غير مألوفةٍ من يابانيّ، خاصّة إذا ما كان هذا الياباني كنزاً حيّاً، أمسك الرّجل يد الغريب بإكبارٍ، وقال له:
- أيّها الضيف المبجّل، أنت ساحر! كائنٌ استثنائيٌّ! ينبغي أن تصير تلميذي!
ولأنّ والدي كان دبلوماسياً رفيعاً، فقد أجاب الرّجل فوراً، بلسان السيّدة:
- ذاك أعزّ أمانيَّ.
لم يكن آنذاك يحسب النتائج المترتّبة عن ردّه المهذّب، ظاناً أنّها ستظلّ مجرّد أقوالٍ. بيد أنّ المعلّم الشّيخ، أمره فوراً، بأن يحضر بعد يومين على السّاعة السّابعة صباحاً، لحضور أوّل دروسه.
أيّ رجل عاقلٍ، كان سيلغي الموعدَ، في اليوم الموالي نفسه، عبْر اتّصالٍ هاتفيّ من سكرتيرته. أمّا مؤلّف حياتي، فقد استيقظ مع الفجر، وحضر موعده في السّاعة المضبوطة. لم تبدُ على الشيّخ الموقّر أدنى أمارات الدّهشة، وشرع في تلقِينه تعليمَه القاسي دون أدنى تساهلٍ، معتبراً أنّ روحاً بتلك العظمة تستحقّ شرف المعاملة بالقسوة.
مع نهاية الدّرس كانت دعائم أبي قد تقوّضت.
قال الشّيخ:
- حسناً، عُد غداً في الموعد نفسه.
- الواقع أنّي... أبدأ العمل في القنصليّة في الثامنة والنّصف.
- لا مشكلة في الأمر. تعالَ إذن في الخامسة صباحاً.
منهاراً، خضع التلميذ. ظلّ يذهب إلى المدرسة كلّ صباحٍ في نفس تلك السّاعة، التي تعدّ ساعةً غير إنسانيّة، خصوصاً بالنّسبة لرجلٍ يمارسُ أصلاً عملاً مرهقاً. مع استثناء نهاية الأسبوع، حيث كان بإمكانه أن يبدأ الدّروس حتّى السّاعة السّابعة، وذاك ما يعتبر رفاهيّة تُداني الكسلَ.
بدأ التلميذ البلجيكي يحسُّ نفسه ينسحق تحت ثقل ذاك الصرح الحضاريّ اليابانيّ، الذي يحاول اقتحامَه. وهو الذي كان، قبل مجيئه إلى اليابان، يحبّ كرة القدم وركوب الدّراجات، أخذ يتساءل أيّ صدفةٍ كريهةٍ تلك التي جعلته يُقدّم وجودَه قرباناً على مذبح فنّ عويصٍ بهذا القدْر. كان مخطئاً. إذ ما لبث أن نبت داخل صدره الواسع، عضوٌ رفيعٌ.
قال الشّيخ لوالدي الذي كان قد تعلّم اليابانيّة:
- أنت مغنٍّ مميّز. سأكمل إذن تكوينك، وأعلّمك الرّقص.
غمغم البلجيكي مشيراً إلى هيئته الغليظة الثقيلة:
- الرّقص... ولكن، أيّها الأستاذ المبجّل، انظر إليّ!
- لا أرى أين يكمن المشكل، سنبدأ درس الرّقص غداً في الخامسة صباحاً.
غداة ذلك، أتى الدّور على الأستاذ ليركِّز. طيلة ساعاتٍ ثلاث، وعلى الرّغم من صبره، فشل الرّجل في انتزاع حركةٍ واحدةٍ غير طافحة بالارتباك والبلادة.
بمزيجٍ من التهذيب والحزن خلُص الكنز الحيّ إلى القول:
- سنجعل منك استثناءً. ستكون مغنيَ نو لا يرقص.
فيما بعد، لم يفوّت المعلّم الشّيخ، وهو يكاد يموت من الضّحك، الفرصة في أن يصف لفريقه كيف يبدو بلجيكيّ يرقص بالمِروَحة.
على أنّ الرّاقص المتواضع قد صار فنّاناً مذهلاً، أو على الأقلّ مثيراً للإعجاب. وبما أنّه كان الأجنبيّ الوحيد في العالم الذي يملك تلك الموهبة، فقد صار شهيراً في اليابان تحت الاسم الذي أُطلق عليه: <<مغنّي النّو ذو العينين الزرقاوين>>.



[1] من سيرتها "ميتافيزيقا الأنابيب".
[2] بخلاف مسرح النّو، الذي هو خاصّة النّبلاء، يعدّ مسرح الكابوكي مسرحاً مفتوحاً يعرض أمام الشّعب بأكمله. وتعود أصوله إلى فترة إيدو من تاريخ اليابان.

Commentaires

  1. مؤلف حياتي!! ..تعابير جميلة وسرد ساحر ..

    RépondreSupprimer

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

امرأة والحرب

موسيقى بيتهوفن

تانيزاكي- جون إيشيرو الكي-لان (كيران)