امرأة والحرب

 

 

 

 

امرأة والحرب

 


ساكاغوشي أنغو

ترجمة: محمّد آيت حنّا

 

 

كان "السّرعوف" يخاطبني تارةً بلقب «مدام» وطوراً بلقب «آنسة». أمّا الضّخم فينادي دائماً «مدام». وأنا كان يروقني الضّخمُ. حين كان السّرعوف يناديني «آنسة»، كنت أتظاهر بأنّي لم ألحظ شيئاً، لكنّني في قرارة نفسي كنت أودّ لو أفعصه.

كان الشيخان معاً في سنَّيْهما السّتين. السّرعوف ربّ معملٍ صغير، والضّخم حفّار آبارٍ. وكنّا نجتمع بين فترات الإنذار، لنلعب ألعابَ قمارٍ متنوّعةً. نومورا والضّخم يربحان تقريباً دائماً؛ بينما نكاد أنا والسّرعوف نخسر على الدّوام. عند كلّ دَورٍ يكون السّرعوف مكشوفاً تماماً، فيبدأ في مناداتي «آنسة» مسترقاً النّظر إليّ بعينين داعرتين. كان وجهه يتّخذ آنذاك هيئةً مقرفةً حتّى يكاد المرء يتوقّع أن يرى لعابه يسيل من فمه. السّرعوف بخيلٌ بخلاً لا نظيرَ له. عندما تحين لحظة وضع المراهنات، كان يخرج أوراقه النّقدية ويتلمّسها واحدةً بعد أخرى؛ يوجِعه التّخلّي عنها. وحين كنت أصرخ به: «لا فائدة في أن تلصق بها بصاقك! إنّه أمر مقرف! هيّا عجّل بوضعها!»، كان وجهه ينكمش مثل وجه رضيع يتهيّأ للبكاء.

أحياناً كنت أمتطي درّاجتي لأقصد الضّخم والسّرعوف وأقترح عليهما أن نلعب دوراً.

كنّا جميعاً على يقين بأنّ اليابان ستخسر، بيد أنّ موقف السّرعوف كان الأشرَّ بيننا: كان جليّاً أنّ خسارة اليابان تبهجه. سيُعدمُ نصف اليابانيّين – ثمانين بالمائة من الرّجال وعشرين بالمائة من النّساء-؛ بالطّبع سيكون هو من العشرين بالمائة من الرّجال النّاجين، وهم تحديداً الرّضع والشّيوخ الخُرف. يضعني أنا بالمقابل ضمن تلك البضع مئات أو البضع آلاف من الفتيات الباحثات عن كفيل يحميهنّ، ومنذ الآن يتصوّر نفسه يشملني بعطفه ورعايته.

إنّ مقدار الرّعب الذي يتملّك هؤلاء المسنّين أثناء القصف لا يصدّق. يتشبّثون بحياتهم تشبّث الذّباب. لكن حين يتعلّق الأمر بسفك دماء الآخرين، فإنّ استساغتهم للأمر تتجاوز بكثير أيّاً من الشّباب. ما إن تُقصفَ شيبا أو هاشيوجي أو هيراتسوكا، أو أيّ مكان آخر، حتّى يكونون أوّل من يهرع إليه لمعاينة ما حصل، وفي حال ما إذا لم يكن الدّمار في مستوى تطلّعاتهم، يعودون وقد خاب أملهم كلّ
 الخيبة. يقرفصون بوقاحة أمام جثث النّساء التي تفحّم نصفها، ويميلون عليها ويشرعون في جسّها وتفحّصها بتمعّن.

عقب كلّ قصفٍ كان السّرعوف يأتي ليقترح عليّ الذّهاب إلى الأمكنة التي أصابها القصف، بيد أنّي اكتفيت بمرافقته مرّة واحدة.

كانوا يمقتون الحربَ لأنّها تمنعهم من التهام السّكار ونهل ما طاب لهم من المتع؛ يمقتونها فقط لأنّها تحرمهم من ذلك. لم يكن يهمهم سوى أنفسهم؛ أمّا بنّو وطنهم، الآخرونَ، فغير موجودين بالنّسبة إليهم. إذا ما كان على باقي الجنس البشريّ أن يفنى، فليَفْنَ! وبقدر ما كان القصف يشتدّ، بقدر ما كان باطن فِكرهم يتعرى، طبقةً طبقة، ثمّ ما لبث أن انتهى المطاف بهم إلى كشفه دون خجل. وإذّاك بدأت عيونهم تلمع لمعاناً عجيباً، لمعاناً شيطانياً. كانوا ينصرفون إلى تشمّم مصائب الآخرين، كانوا يسعون باحثين عنها، يطلبونها بكلّ أمانيهم.

وذات يوم ركبت درّاجتي قاصدةً السّرعوف. كان الجوّ حاراً ولم أرتدِ الجوارب الطويلةَ تحت تنّورتي. منذ أن دُمّرت هذه النّاحية صار بالإمكان التجوّل دون ارتداء السروال المفروض، ما عاد يأبه للأمر أحد. بسحنة محتقنة كان الشّيخ يلتهمّ بعينيه ساقيَّ العاريتين. وقبل أن يغادر المأوى الذي تحصّن به منذ أن أُحرق منزله، خبّأ شيئاً تحت قميصه، وبينما نحن عائدان معاً إلى بيتي قال لي دون مقدّمات: «سأريك شيئاً، اعلمي أنّك الوحيدة التي ستراه!»؛ قرفص على الأعشاب بين الحطام، وخمِّنوا ماذا أخرج؟ كتاب رسومات فاحشة- كتاب جميل مجلّد، على طريقة الألبومات، بغلافٍ كرتوني.

- شكراً لك ستعطيني إيّاه، أليس كذلك؟

- تمزحين

كان يلهث. أشاح برأسه، مرتبكاً ومتردّداً؛ اِنتهزت تلك اللّحظة لأنتزع الكتاب من يديه، ثمّ قفزت على دراجتي. كان المسكين متضعضعاً لدرجة أنّه بالكاد استطاع أن ينتصب على قدميه المترنّحتين، ويتابعني بفمٍ فاغر ونظرةٍ بليدة، وأنا انطلق بهدوء.

- بإمكانك أن تمرَّ عليّ لاستعادته.

- عاهرة!

كان يتميّز غيظاً.

كان السّرعوف يمقتني. أما أنا فكت أعلم علم اليقين أنّ الرّجال ما إن يبلغوا الأربعين حتّى تتبدّل نظرتهم إلى المرأة بمقدار مائة وثمانين درجة. حين يبلغون تلك السنّ تنتهي بالنسبة إليهم أمور الحبّ (بأحرفٍ بارزة[1])، والأحلام والرقّة: آنذاك يكفي بعض الخيار المخلّل المعدّ منزلياً لإرضاء حاجتهم تماماً. يصيرون مقتنعين على ما يبدو بأنّه إذا ما كان ثمّة من وجود للمشاعر، فإنّ وجودها لا يمكن أن يخرج عن نطاق الخيار المخلّل والفِراش. وتلك هي اللّحظة التي يبدأ فيها هوسهم الكليّ بفرج المرأة. أجل، تلك السنّ هي حقاً السنّ التي يبدأ الرّجال فيها بفقدان صوابهم بسبب النّساء، وبما أنّ الجنس هو شغلهم الشّاغل، فإنّهم في منأى عن خيبات الأمل. لكن ينبغي القول أيضاً إنّهم في هذه السنّ يصيرون عارفين تماماً بطبيعة الأنثى؛ لقد كان لديهم ما يكفي من الوقت لكي يحفروا فيها، يوماً بعد آخر، نازعين عنها كلّ حيلها وألاعيبها، حتّى لم يعودوا يمحضون الأنوثةَ في نهاية المطاف سوى إحساس فضفاض من الكراهية. لكن بما أنّ اهتمامهم ينحصر على كلّ حالٍ في الجنس وحدَه، فإنّ كرههم لا يغيّر من الأمر شيئاً؛ لا بل إنّه يعمل غالباً على إثارةِ رغبتهم.

لا تُهَدْهِدُهم أحلامُ الحبّ العذبة. لا يشغلون بالهم إلا بالعمليات الحسابية؛ بمساومة الجنس. لكن: بما أنّ غوايةَ المرأة نبعٌ لا ينضب ماؤه قبل عشر سنين أو خمس عشرة سنة، عكس نقود الرّجال، فليس أيسر على المرأة من أن تحوّل الرّجل، في وقت وجيز، إلى مُفلسٍ خرِفٍ.

كنت أحياناً أتحرّق إلى تحويل السّرعوف إلى رجلٍ مفلس. ما كان يمرّ عليّ، في الواقع، يوم دون أن أفكّر في ذلك. يالها من لذةٍ في أن أجعله يزحف ويدور حولي  كما يدور الكلب حول الكلبة، وأن أنتف وبره حتّى آخر زَغبةٍ، ثمّ أقتلع عينيه قبل أن أطلقه ليجري! لكن في الواقع، ما كان الأمر يهمّني إلى درجة المحاولة. لو أنّه فقط كان أقلّ تهالكاً وأقلّ مدعاةً للقرف! بيد أنّ ما سبق لا يمنعني، بين الفينة والأخرى، من أن أقول لنفسي: بما أنّه قد وضع إحدى قدميه في القبر، فلا شيء يمنع من أن نعينهُ بدفعَةٍ...؛ لكن في نهاية المطاف، لم آنس في نفسي قطّ الرّغبة في الانتقال إلى التّطبيق. لا ريب في أنّ مردّ ذلك إلى أنّي كنت مغرمةً بنومورا، ومن البديهيّ ألاّ تروقه مثل تلك الأمور. لم يكن نومورا يصدّق أنّي  أحبّه؛ كان يرى أنّ الحرب قد كبحت جماحي قليلاً، لكن لا ينبغي النظر أبعد من ذلك.

فيما مضى كنت مومساً؛ كنت أتشبّث بأعمدة المناور لأتصيّدَ المارة هامسة: «وإذن يا حبيبي، ألن تأتي؟». أعتقني أحد الزّبناء واعتنى بي؛ أشرفت بعد ذلك على مطعمٍ حقير، لكنّي، وأنا الفاسقة، ضاجعت تقريباً كلّ المتردّدين على المطعم. وكان نومورا من بين من أصابوا من الأمرِ سهماً. ثمّ أتت الحرب واضطررت إلى غلق المحلّ. وبما أنّهم صاروا يزعجوننا بأمور التّجنيد، فقد ارتأيت أنّ من الحكمة أن أدّعي أنّني امرأة متزوجة. ووقع اختياري على نومورا الذي كان يعيش بمفرده؛ ولأنّه كان ذا طبع غير مبالٍ، فما كانت تهمّه الشّكليات. استقبلني بابتسامة ساخرة: «على كلّ حالٍ، ينبغي أن نرى ما سيحدث عندما ستخسر اليابان الحرب، ستعمّ الفوضى الشاملة؛ وإذن، حتّى ذلك الحين...!» ما كنّا نضع بالحسبان ولو للحظة، (خاصّة أنا)، أن نتزوّج زواجاً رسمياً.

ومع ذلك كنت أنا أحبّ نومورا منذ مدّة، وصرت إلى حبّه أكثر فأكثر. لا بل إنّ الأمر قد بلغ بي حدّ أن أخاطب نفسي قائلةً: يكفي فقط أن يكون هو موافقاً، لأبقى معه طيلة حياتي.

كنت داعرةً، وكنت بحاجة إلى العربدة. كانت العفّة حقاً آخر ما يشغل بالي! جسدي كان هو لعبتي التي ألهو بها، وما كان بوسع شيء أن يمنعني من بذله في سبيل لذّاتي حتّى آخر يومٍ من حياتي.

في ذهن نومورا، لم أكن أنا من ذاك النّوع من النّساء اللّواتي يكفيهنّ رجلٌ واحدٌ، كنت بحاجة دائمة إلى التنقّل من واحدٍ إلى آخر. غير أنّ اللّهو والحبّ شيئان مختلفان. يأتي عليَّ لا محالة حينٌ يلزمني فيه أن ألهو. جسدي ييبسّ، يتشنّج بالطّبع. أعرفُ، أنّي لست ذات شأنٍ، لكن هل أنا الوحيدة التي تفترسها هذه الحاجة؟ على كلّ حال، أنا كنت أحبّ نومورا، ولم يكن للأمر علاقة بلحظات فجوري. كنت بالمقابل على يقين بأنّه ينوي تركي ليرتبط بامرأة صالحة؛ لكن قبل أن يتأتّى له ذلك، سيكون في جميع الأحوال، قد قضى في الحرب، أو اقتيد أسيراً إلى مكانٍ ما، إن كُتبت له النّجاة. كنت متيقّنة من الأمر، قدر يقين نومورا، لذلك، طالما تستمرّ الحرب، على الأقلّ أثناء ذلك، كنت أريد أن أكون له زوجةً صالحة.

كنت أحبّ الغارات اللّيليّة التي تشنّها أسراب الطّائرات ب 26. أثناء النّهار، كانت الطّائرات تحلّق عالياً جداً وما كنّا نستبين شيئاً؛ لم يكن ثمّة ضوء ولا أيّ لون من الألوان، وإذن لم يكن الأمر مسلياً. عندما تمّ قصف مطار هانيدا أرْجَحَ خمسةُ قنّاصة أو ستّةٌ متلفّعينَ بالسّواد أجنحتَهم في الرّيح قبل أن يندفعوا، واحداً إثرَ آخر، صوبَ الأرض. كم كانت الحربُ رائعةً! بالكاد كنّا نجد الوقت لنختلس، ونحن نقشعرّ، لمحاتٍ عابرةً من الجمال الذي كانت تنطوي عليه. ما كنّا نكاد نعي حقاً ما يحدث حتّى يكون كلّ شيء قد مرّ. لم تكن الحرب تعرف التدلّل، ولا تحمل أدنى أسف. ويالها من أريحيّة! المنازلُ والأحياءُ والحياة التي كانت تنهار، ما كانت تحرّك فيّ أدنى إحساسٍ بالغضب؛ ما كنت مرتبطةً حقاً بشيء للدّرجة التي تدفع بي إلى أن ألعن القدر على فقده.

على أنّي ذات يوم بينما أتابع غارةً انقضاضيّة حابسةً أنفاسي، انهالت عليّ زوبعةٌ مباغتة مدوّيةً دوياً رائعاً. طائراتٌ كانت تمرّ فوق رأسي ماسحةً الأسطح، ومزّقَ الجوَّ هديرُ الرّشاشات المدوّي. لم تندّ عنّي حتّى ردّة الفعل الطبيعية التي تدفعني إلى الانبطاح على الأرض، ورأيتُ على بعد عشرة أمتارٍ تقريباً أجساداً متناثرةً على قارعة الطّريق؛ وصارت تملأ جدرانَ البيت القائم هناكَ ثقوبٌ تقارب الثلاثين ثقباً، لا يقلّ قُطر الواحد منها عن خمسة سنتمترات.

من يومها صرت أمقت الغارات النّهاريّة. شعرتُ بخزيٍ مزعجٍ، كأنّما باغتني أحد المتلصّصين وأنا أرتدي تبّاناً قصيراً. أثناءَ إحدى الغارات النّهاريّة التي قامت بها، قبل إعلان الهدنة، طائراتٌ قنّاصة، حدث أن صرتُ مغطّاةً بوابلٍ من الرّمال. كنت منهمكة مع نومورا في رأب صدوع مأوانا، حينَ بزغت في السّماء الهيئةُ السّوداء لإحدى الآلات على ارتفاع خمسمائة مترٍ. أفلتت منّي صرخةٌ حينَ رأيتُ برميلاً ينفصلُ عنها ببطءٍ. سمعت نومورا يصيح: «قُضيَ علينا! انبطحي!» كنت على مقربة من المأوى، بيد أنّي ما كنت أملك الوقت لألجأ إليه؛ ومع ذلك بأعصابٍ باردةٍ نظرتُ إلى نومورا قبل أن أنبطح على الأرض بهدوءٍ. تحت بطني وذقني كانت الأرض تضطرب مهتزّةً حتّى أعماقها؛ خلتُ أنّ العاصفة التي تهزّ الجوّ ستقتلعني من الأرض. بعد ذلك فقط انهالَ عليّ وابل الرّمل. في مثل تلك الظروف يبدي نومورا الكثير من الاهتمام. تظاهرت بالموت، وأنا على يقين من أنّه إذا كان ما يزال على قيد الحياة سيأتي ليرفعني من الأرض مطوّقنا إيّاي بذراعيه. لم أخطئ التّقديرَ: لم يمضِ الكثير حتّى أحسست ذراعيه تطوّقان جسدي؛ فمه يمطرني بالقبل ويديه تسرحان فوقَ جسدي. متشابكَين أخذنا نتلوّى على الأرض ضاحكَين. يومئذٍ غاصت القذيفةُ عميقاً في الأرض لدرجة أنّ بيتاً واحداً، على بعد عتبتين من بيتنا، صار في مهبّ الرّيح؛ ولم تسلم أيّ بناية من البنايات المحيطة، التي تضرّرت سقوفها أو تحطّمت نوافذها على الأقلّ.

الغارات اللّيليّة، ليسَ ثمّة ما هو أعجب من ذلك! كنتُ أمقت الحرب لكلّ المباهج التي حرمتني منها، لكن ما إن بدأت الغارات اللّيليّة حتّى انتهى الأمر، ما عدت أحقد عليها. كنت أمقت ظلمات ليالي الحرب، لكن ما إن بدأنا نشهد القصفَ اللّيليّ، حتّى صرت أحيا إلا بفضلها؛ كانت تجتذب كامل جسدي، كأنّما هي مرتبطة بحياتي بواسطة تناغم عميق.

من الممكن أن أُسأل عمّا أجده مدهشاً في عمليات القصف تلك. حسناً، عليّ الإقرار صراحةً بأنّ أكثر ما يجلب الرّضا إلى نفسي هو فداحة الخسائر. ثمّ كم كانت رائعةً طائرات ب 29 تلك، ذات اللّون الفضيّ المزنجر[2] التي كانت تشرع بغتةً في العوم داخل حزم ضوء الكشّافات! والفرقعة الباهرة التي تنطلق من العتاد المضاد للطّائرات، وطائرات ب 29 المبحرة نحونا والتي تنفجر في خضمِّ وابلِ القصف. والطائرات المقاتلة التي تسقط مزدهرةً في الفضاء كأنّها شهب اصطناعيّة... بيد أنّي مدينةٌ بالنّشوة التّامة للنّار، تلك النّار التي كانت تلتهم كلّ شيء حولي.

كنت أكتم حنيني كلّه. المدينة الشّماليّة حيث اقتادني أبي وأمّي وباعاني إلى قوّاد، ثمّ قرية طفولتي، تلك الضّيعة التي تحيطها الجبال حيث تظل، هنا وهناك، على الدّوام بعضُ قطع الثّلج كجذامٍ مقزّز؛ تلك الأشياء هيَ ما كنتُ أراه بلا كللٍ يحترق في لهيب الفَنَاء. آه! لو كان من الممكن أن يحترق كلّ شيء! تلك الصّرخة كانت تمزّق قلبي. لو أمكن أن تحترق المدن والحقول والأشجار، والعصافير في السّماء والمياه في البحر! أختنقُ، حلقي يغصّ بالشّهقات، الأمر فوق طاقتي، ينتهي بي المطاف دوماً إلى أن أدفن رأسي بين راحتيّ.

لو فقط كان بالإمكان أن يحترق الكره مع ما تبقّى! أحياناً، عندما كنت أتأمّل النّار، كان يستبدّ بيَ القلق إذ أحسّ نفسي مفعمةً بالكراهية إلى ذاك الحد. في تلك اللّحظات، كنت أحتاج، مهما كلّفني الأمر، إلى أن أتأكّد من أنّ نومورا يحبّني. لم يكن نومورا يحبّ سوى جسدي. لكنّ ذلك كان يكفيني: ثمّة من يحبّني. تحت مداعباته الحارقة كان فكري يشرد خَلَل تأمّلات حزينة، لكن ما إن تخفّ شدّته، حتّى أصرخ به: «مزيداً! مزيداً! مزيداً!» وكانت تنتابني الرّغبة في أن أعانق جسدي، هذا الجسد العصيّ على الفهم، وأن أبكي.

كنت أترقّب بتحرّق خفيّ اليومَ الذي يقع فيه حيّنُا فريسةَ النّيران. أثناء القصف كنت أحرص دائماً على أن أحمل معي قارورة السيانيد التي أعطانِيها السّرعوفُ. كنتُ مصمّمة على أن أعجّل بموتي، يومَ يبدأ الدّخان في خنقي، حتّى أفلت من سَكرات الاحتضار. لم أكن على وجه التّخصيص أرغب في الموت، بيد أنّ الخوف من أن أعانيَ، اختناقاً بالدّخان، ما انفكّ يقلقني على نحو غامضٍ.

الطائرات ذات اللّون الفضي المزنجر التي ما كانت قد حلقت قبل الآن سوى فوق الأحياء الأخرى التي تحوّلت سريعاً إلى أتون، تلك الطائرات برزت هذه اللّيلةَ فجأةً في قلب حُزم الضوء؛ مالت بأجنحتها، وقلبت اتّجاهَها فوق رؤوسنا مباشرةً، وانصرفت؛ وأحاط بنا فوراً بحرٌ من اللّهب، وسرعان ما حجبَ السّماءَ دخانٌ أحمرٌ سميك. كان الضّجيج يمزّق الآفاق؛ دويّ القنابل، ضجّة الانفجارات، هدير العتاد؛ وبغتةً انطلق، مقترباً أكثر فأكثرَ، زفيرُ النيران التي كانت تستعر في كلّ مكانٍ حولنا.

صرخ بي نومورا: «لنهرب!»

كان قد اجتاح الشّارعَ قطيع غير منتظم من الهاربين الذين كانوا يركضون ملتصقين بعضهم ببعض- كانوا كائنات مختلفة عنّي: طغى عليّ يومها شعوري بالاختلاف عنهم لدرجة أنّه قد بدا لي فجأةً أنّي قد أفضل الموتَ على أن أنضمّ إلى ذاك الحشد الوحشيّ، الأعمى وعديم الذّمة، المؤلَّف من هذه الكائنات الغريبة عنّي تماماً. كنت وحيدةً في هذا العالم، لكن فقط لو ظلّ معي نومورا! كنت أشتهيه. وبدأت أفهم أيضاً لمَ أحتفظ معي دوماً بقارورة السيانيد. حواسي كلّها كانت مشدودةً، كأنّما أتنصّت لشيء. لكن لا شيء، لم أستطع أن أستبين شيئاً.

- لننتظر فقط قليلاً. قل، هل تخافُ الموتَ؟

- عجباً، لا يعني ليَ الأمر شيئاً! قبل قليل، كنت، كلّما سمعتُ دويّ قذيفة تهوي، أحسّ أنّ قلبي سيتوقّف!

- أنا أيضاً. بل وأكثر!... أوَ تدري، لا أريد الرّحيل مع الآخرين.

اندلع في داخلي إصرارٌ غير متوقّع. دافعٌ أعمى. كنت أتألّم من الرّقة والحنان. كنت أرغب في البكاء. بوسع الآخرين أن يموتوا وأن تصير بيوتهم رماداً، لكن نحنُ ينبغي أن نعيش! لا ينبغي أن يحترق منزلنا! علينا أن نحمي هذا المنزل حتّى النّهاية! ما عدت قادرةً على التّفكير في شيء آخر.

رجوت نومورا بكلّ ما في صوتي من طاقة:

- أتوسّل إليك، افعل شيئاً! لا تترك المنزل يحترق! إنّه منزلك، إنّه منزلي! لا أريده أن يحترق!

اِرتسم على وجهه ذهولٌ مفعمٌ بالرّيبة؛ واجتاح ملامحَه كلّها دفقٌ من الحنان. ما كنت أرغب في شيء سوى أن أنقاد بكاملي إلى نومورا، أن أعطيه قلبي وجسدي وكامل كياني المنتشي. انفجرت شهقاتي. باحثاً عن شفتيّ، أمالَ نومورا رأسي حاضناً ذقني في يده العريضة. فوقي اكتست السّماء بلون أحمر جهنّميّ. لم أحلم قطّ بالجنّة. لكن من ذا الذي كان ليتخيّل أنّ الجحيم قد يبعث فينا مثل هذا الرضا! النيران التي تحاصرنا تضطرم بعنفٍ جديد كلّ الجدّة، عنفٍ يُغرق روحي بوجعٍ. انهمرت من عينيّ دموع لا تنضب؛ كنت أختنق، كنت أئِنّ – كنت أطلق عبر تلك الشّهقات فرحي كلّه.

في وضح النيران أخذت بشرتي تبرز شاحبةً شحوباً عاجياً. ضاعفت يدا نومورا لمساتها، كأنّما وقَعَت أسيرةَ بياض بشرتي، ثمّ خفض فجأةً ثوب الكيمونو الذي كنت أرتديه وغطّى به بشرتي مثلما نديرُ مفتاحَ دولاب. قام، تناولَ دلوَ ماءٍ وأخذ يركض؛ حذوت حذوه فوراً. ثمّ جرى كلّ شيء مثلما يحدث في حلم. كانت أشجار الحديقة تضرب حجاباً حولَ منزلنا. لحسن الحظّ، كان ثمّة زقاق في الجهة التي تهبّ منها الرّيح، ولم يكن للمنزل المجاور طابق ثانٍ. على الرّغم من شساعة الأتون المحيط بنا لم يكن الخطر يتهدّدنا سوى من جهة واحدة: كان علينا أن نسعى إلى السيطرة على النّار شبراً فشبرا. حتّى أنّ النّار كانت قد بلغت ذروتها، وكان بوسعنا أن نأمل في أنّ عاصفة اللّهيب المستعرة لن تدوم الآن أكثر من خمس عشرة دقيقة، وما كان ثمّة من مجال لمحاولة الاقتراب منها في تلك اللّحظة، لكن ما إن تمرّ فترة الذروة، حتّى لا يبقى ثمّة ما نخشاه؛ وحدها مساحة المنزل الممتدّة ستكون خصماً لنا. صببنا على بيتنا أكبر قدر ممكن من الماء، قبل أن يصير منزلُ الجيران فريسةَ النيران. وحين انهار منزلهم، عدنا إلى باب المطبخ: كانت النيران قد انقضّت على الإفريز. بعض دلاء الماء كانت كافية لإطفائها: لقد تجاوزنا الخطر.

حتّى اللّحظة التي التهمت فيها النيران منزل الجيران، كنّا نغرف الماءَ ونصبّه على منزلنا دون أن نأبه لشيء آخر. كانت تلك هي اللّحظة الأشدّ رعباً.

سقطتُ لاهثةً على أرض الحديقة. أحسست أنّ نومورا كان يكلّمني لكنّي لم أملك حتّى الجهد لأجيبه. وحين ضمّ جسدي إلى جسده أدركت أنّ يدي كانت ما تزال ممسكةً بمقبض الدلو. كنت سعيدةً. يخيّل إليّ أنّه لم يسبق لي أن بكيت باستسلام يبلغ هذا الحدّ من الامتلاء والفراغ في آنٍ؛ أحسست بنفسي مثل طفل وُلِد للتوّ. كان قلبي أشدّ فراغاً من الخراب الذي خلّفته النيران، لكني كنت أغصّ في الآن نفسه بامتلاء مفرطٍ بالحياة. بقوّةٍ أشدّ، ضمّني بقوّة أشدّ، أكثر! كان نومورا يلتهم جسدي قُبَلاً. أنفي، فمي، عينيّ، أذنيّ، خديّ، رقبتي. يغرقني بلمساتٍ رائعة تثير فيّ الضحك، وتهيّجني، وتؤلمني أحياناً، بيد أنّي كنت أحسّ نفسي مغمورة بالسّعادة. كنت أنتشي لذّةً وأنا أبصر لذّتَه والنشوةَ المحمومة التي يدفع به فيها جسدي. ما كنت أفكّر في شيء؛ ما كنت أحتاج إلى التّفكير في أيّ شيء. وحدها نُتف طفولتي كانت تصعد إلى سطح ذاكرتي. ذكريات مبعثرة. ما كنت أقيم أيّ مقارنة بينها وبين الحاضر. أتذكّر، فحسب. والحزن الذي يعصر قلبي يكاد يمحو أحياناً نومورا من وعيي. ففي غمرة اللّمسات التي يغدق بها عليّ، كنت أتمثّل فجأة وجوه رجالٍ آخرين؛ حتّى السّرعوف تمثلته. بيد أنّ التفكير يزعجني في كلّ الأحوال. حسبي نشوة نومورا وحمّى لمساته.

الربّ، الجنّة- لطالما مقتّ تلك الأشياء التي يقال إنّها شريفة المقام، بيد أنّي ما حسبت قطّ قبل ذاك اليوم أنّي كنت سليلةَ الجحيم. تحوّل حيُّنا إلى أرض محروقة على مدارٍ مقداره فرسخٌ، ماعدا حوالي ثلاثة مجمّعات سكنية تشكّل دائرة شعاعها يقارب المائة متر؛ عندما شعرت بأنّ هذه المنطقة لن تتعرّض مرّة أخرى للحرق أصابني الإحباط. كنت أكره مجال الخراب المحيط بي. لأنّه لن يُحرق مرّة أخرى؛ لأنّ زيارات طائرات ب 29 لن تحمل بعد الآن تلك الوعود التي كانت تحملها.

على أنّ نزول العدوِّ، –اللّحظة التي ستشهد هطول وابل من القذائف على اليابان بأكمله، حيث سينفجر كلّ شيء، ويتساقط النّاس كالذّباب عند كلّ شارع- لحظةُ النّهاية تلك كانت وشيكةً. لم أكن أحيا سوى بذاك الأمل. غداةَ قصف حيّنا ظللت أتأمّل شساعة الأنقاض. يا للهشاشة! لمَ كلّ ما يصنعه الإنسان، كلّ ما يقيمُه يزول بهذه السّرعة! لم يسبق لي أن أبصرت سوى ظلّ الأشياء؛ لم يسبق لي أن عانقت شيئاً. كنت عطشى للحبّ، عطشى إلى درجة أنّي تملّكني الإحساس بأنّ ظهري يتصدّع، وأنّ نخاع عظامي ييبس مثل عشبِ مرْجٍ قاحل. حين كانت نشرات الرّاديو الإنذارية تعلن أنّ غارة يشنّها سرب مؤلّف من ثلاثمائة أو خمسمائة طائرة ب 29، كان جسدي يضطرم بسعارٍ نافذ الصّبر. ماذا؟ خمسمائة فقط! متى سيرسلون إذن ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف! خمسمائة، يا للبؤس! أنا كنت أحلم بأسطول عملاقٍ يحجب السماء كلّها بسحابة من طائرات. يا له من منظرٍ مبهج!

احترق السّرعوف. والضّخم أيضاً.

كان السّرعوف قد أتانا يسأل الضيافة، لكنّي طردته شرّ طردة. كان منذ زمن طويلٍ قد بنى ملجأً جيّداً من تلك الملاجئ التي قلّما نرى نظيرها في هذه النّاحية. وكان قد استطاع أن يخبئ فيه الجزء الأكبر من ممتلكاته، وبناه بشكلٍ يجعله في منأى عن النّيران ما لم يتمّ قصفه مباشرةً. دفعه ملجأنا الحقير إلى السّخريّة: «وإذن، هل نقلتما أثاثكما إلى مكانٍ آمن؟ قولا، يبدو لي أنّ مأواكما ليس متهالكاً بما يكفي! حقّاً إنّه لأمرٌ رائعٌ أن يرى المرء أنّ ثمّة أناساً لا يأبهون بأنّ كلّ شيء احترق» الحقّ يقال، كان السّرعوف يرجو الهزيمة بكلّ أمانيه الشّيطانيّة. كان يتحرّق شوقاً ليشهد وصول أسرابٍ مؤلّفة من عشرة آلاف إلى عشرين ألف طائرة ب 29. كان واثقاً من أنّ طوكيو ستُحرق عن بكرة أبيها- ستصير أرضاً محروقةً، تكون بمثابة عملٍ إضافيٍّ ينجزه جنود المدفعيّة بعناية. لكن حتّى حين تحين تلك اللّحظة، وبما أنّ فرص إصابةِ ملجئه إصابةً مباشرة ضئيلةٌ جداً، فإنّه لا يشكّ لحظةً في أنّه سيظلُّ قائماً. لن يكون عليه آنذاك سوى أن يزحف على بطنه إلى الخارج، ويصيح رافعاً يديه: «ارحموا عجوزاً مسكيناً!» كان قد وضع كلّ احتياطاته حتّى تلك اللّحظة؛ وإذْ كان راضياً جداً عن نفسه، فإنّه لم يمتنع عن إضجارنا بتكرار القول: «على المرء أن يكون أحمق كي لا يستغلّ ما لديه من إمكانات، في بناء ملجأٍ آمنٍ! ليست النّقود سوى أوراقٍ، لن نربح شيئاً من ادّخارها!» كان يعيد هذا الكلام على أسماعنا مثل ترنيمةٍ. لذا، حين أتى لزيارتنا قذفت في وجهه: «ألم تبنِ ملجأً جيّداً تحسّباً لهذه اللّحظة؟ حسناً، اذهب إذن إلى ملجئك الجيّد!»

- الحقيقةُ أنّه مليء عن آخره...

- ذاك ليس شأني! قُلْ، أوَ كنت أنت لتقبل باستضافتنا لو أنّ بيتنا احترق؟

- ثقي بذلك!

ألقى عبارته الفظّة بابتسامةٍ شريرة قبل أن يستدير منصرفاً.

كانت أحاسيس السّرعوف فجّة مثل عُريِ دودَةِ أرض. عندما أتى يرانا عبر الخرائب التي كانت ما تزال مشتعلة، حيّانا قائلاً: «وإذن، ألم تحترقا!» كان الانزعاج بادياً على وجهه الذي يعكس أسفاً لا حدّ له. كان واضحاً جدّاً أنّه غير مستعد لأن يضيف عبارة أخرى، من قبيل: «يسعدني ذلك»، أو «أنا سعيد لأجلكما». على أنّ ما كان يطمئنه قليلاً هو قناعته بأنّ، كيفما كانت السّبيل، سينتهي المطاف بجميع المنازل ممسوحةً بالنّيران، وإذا ما ظلّ بعضها، لسوء الحظّ، قائماً، فبالإمكان التّعويل على أنّها ستصير هدفاً للقنّاصة؛ ومع قليل من الحظ، ستكفي مفرقعة صغيرة لتفجيرها وسكّانَها.

- من المؤكّد أنّ ملجئي ليس كبيراً حقاً... في الحالة القصوى، لا أدري... ربما شخص واحد... آه، بلى! إذا ما كنتِ بمفردِك، بوسعي، كحدٍ أقصى، أن أستضيفك!

لم يكن يجد حرجاً في أن يتحدّث في الأمر منذ الآن بكامل أريحّية.

لأصدقكم القول، حين ستسقط علينا قذيفةٌ وتكنسُ المنزلَ ومعه نوموراً، لن أجد حرجاً في أن أفعل ما قال، ما دمت سأبقى وحدي على قيد الحياة. آنذاك يمكن الوثوق بأنّي سآوي إلى ملجأ السّرعوف، وهناك سأنشغل أولاً بإهلاك العجوزِ زوجتِه على نار هادئة باثةً الشقاق بينهما؛ ثمّ انتقل إلى السّرعوف وسيرى كيف سأدفع به إلى الجنون رويداً رويداً، قبل أن أتركه يهلك. أمّا كيف سأحيا بعد ذلك، فلستُ أبالي: سأتدبّر أمري!

بيد أنّ ذلك لا يمنع من أنّي في أحلامي، كنت أراني ونومورا نفرّ مترنّحين من أرض المعركة، هاربين من كلّ جانب. سنتوارى في حقل القمع؛ سيحملني نومورا بين ذراعيه ويقطع بيَ الأنهارَ، وسنفرّ بعيداً، بعيداً في عمق الجبل، ولسنوات سنعيش هناك في كوخ لن يدريَ بوجوده أحدٌ، متخفيّين عن عيون الجنود الأعداء الذين يلاحقوننا؛ كنت أتخيّل كم ستكون رائعةً تلك المغامرة.

الآن بعدما توقّفت المعارك، لا يبدو أنّ ثمّة ما يمنعني من أن أعيش مثلما كنت أفعل فيما مضى، لكن أثناء الحرب ما كان ذلك الاحتمال حتّى ليخطر ببالي. كنت على يقين بأنّ غالبية السّاكنة ستُباد؛ أمّا أولئك الذين سيحاولون الاختباء، فسيتمّ استخراجهم من جحورهم ويعدمون. أمّا نحن، فسنهرب؛ سنفلت من العدوّ، وسأعيش على المتع المثيرة التي سأعرفها مع نومورا. سنقضي سنوات وسنوات. لكن يوماً مّا سنهبط إلى المناطق الآهلة؛ سيكون السلام قد حلّ وستمرّ أمام ناظرينا أيّامٌ لا تقلّ وداعةً وبعثاً على الملل عن ما مضى من أيّام: لن يبقى لنا آنذاك بلا ريب سوى أن نفترق. تنتهي أحلامي، في حقيقة الأمر، عند لحظة فراقنا. أن نشيخ معا...؛ هو ذا أمرٌ لم يخطر ببالي حتّى. ثمّ إنّ بمقدوري أن أشتغل مثلاً في بارٍ رفيعٍ؛ سأخاتل ربّ المحلّ وأتّخذ عشّاقاً يافعين؛ سأفعل ذلك، أو شيئاً آخر، في جميع الأحوال لن تعوزني الموارد.

كنت أحبّ نومورا. أحبّه وفقط. لمَ؟ ما الذي كان يعجبني فيه؟ لم يكن لهذا النّوع من الأسئلة أيّ معنى بالنّسبة لي. كنت أعيش معه، وفي جميع الأحوال لم يكن بغيضاً: هل من الممكن أن يكون ثمّة سببٌ أقوى من هذا؟ ليس ما يعزّ وجوده هو الرّجال ، لا بل وأفضل من نومورا، ثمّة ما لا يعدّ ولا يحصى منهم. لا ريب في أنّني سأنساه، وحتّى أكون صادقة، كان ذلك هو الأمر الرّئيس الذي أفكّر فيه حين أكون بين ذراعَي نومورا. لكن أن أجعل من الأمر مشكلاً، يا لَفظاظتي! لطالما أحببت الأحلام الحلوة.

يقال إنّ الإنسانَ يحوز ملكةَ تخيّل أيّ شيء، غير أنّي، صدقاً، أرى أنّ ذهنه يظلّ بالأحرى حبيسَ حدود شديدة الضيق. لنتأمّل قليلاً: أثناء الحرب، لم يخطر ببالي قطّ أنّه مباشرةً غداةَ إعلان الهدنة، هوب! هكذا، في اللّحظة نفسها ستُستأنف الحياةُ كما كانت من ذي قبل. كنت أحسب أنّني ونومورا كنّا مترابطَين كجسمٍ واحدٍ في مواجهة نكبة الحرب، وأنّنا كنا نقف يائسَين في وجه شيء متعذّر الإدراك، وكان ذلك الإحساس يملؤني بمزيجٍ من الحنين والعنف والرّقة.

عطشي إلى حياة الخلاعة يجعلني نصف مجنونة؛ كلّ ذاك الملل الذي كان يحيط بي، وحتّى نومورا نفسه، والسّرعوف، أمقتهم، ألعنهم جميعاً؛ أرفض مداعبات نومورا؛ لا أتكلّف حتّى عناء إجابته حين يحدّثني. في مثل تلك الأوقات، كنت أمتطي درّاجتي وأنطلق خلَلَ الأنقاض. وإذ يعمد آنذاك أحد العمّال الشّباب أو أحد أفراد الحرس المدنيّ إلى مناداتي، ملقياً بدعاباتٍ حولَ ساقيَّ العاريتين اللّتين لا يغطّيهما السروال المفروض، كنت أشتعل غضباً لدرجة أنّي تستبدّ بي الرغبة في مضاجعته.

على أنّ ذلك لا يمنع من أنّني كنت أشفق على نومورا. فعاجلاً أم آجلاً ستصطاده الحرب. إنّه لأمر يكاد يكون محسوماً بالنّسبة لي، إن لم أقل أنّه محسومٌ تماماً. وأنا، التي سأظلّ وحدي على قيد الحياة، سيكون بمقدوري أخيراً أن أحيا كما أشتهي.

هُوَذا، لقد كنت ذات يومٍ الزّوجةَ المحبوبة لرجلٍ: وددتُ  لو أحفظ هذه القطعة من الذكريات؛ لو أضعها جنب القطع الأخرى. ولقد مات ذاك الرّجل على عشقي، مقتولاً في الحرب، وأنا ما أزال أحيا في هذا البلد المتداعي حيث لم يعد ثمّة غير الثقوب – في هذا الكون المهيّج المغطّى بلبنات الإسمنت والصّخور؛ وما إن أبلغ ثمالة نشوتي، حتّى يصير بوسعي أن أهمس: «بلى! لقد مات زوجي العزيز في الحرب!» ستكون لعبارتي رنّة مؤثّرة بشكلٍ جميل.

على الرّغم من كلّ شيء، يحزنني أمرُ نومورا. أجل، لا بل إنّي لأشفق عليه في الواقع، وذلك لسبب لا ردّ له، سبب نهائيّ ومطلق: هو لم يكن يوهم نفسه بشيء، وإنّما كان يتمثّل تمثّلاً واضحاً فظاعةَ اليوم الأخير من الحرب: بالنّسبة للرّجال الذين سينجون من الموت، لن يكون ثمّة من منفذ سوى الأسر. سيشطب نهائياً على اليابان من الخريطة. وحدهن النّساء سيُعفى عنهنّ، وسينجبن سلالة مختلطة؛ آنذاك سيولد بلد جديد. كان يؤمن حقاً بذلك، وما كان ثمّة من سبيل لتسليته. كان يغرقني مداعباتٍ قائلاً إنّ يوماً سيأتي لن يستطيع أن يفعل فيه ذلك. كان يغرقني مداعبات وقلبُه يشتعل حقداً وغضباً. أمّا أنا فكنت أرى أنّ مصير اليابان بأكمله هو ما يتجلّى عبر نومورا. اليابان -هذا البلد الذي أبصرت فيه النّور- كان هو أيضاً يغرق؛ ما كنت أحمل تجاهه أيّ كراهية. كانت مداعبات نومورا السّاخطة مرآةَ الذي يموت رويداً رويدا. هو ذا الوجه الذي كان لليابان؛ كان يفقد صوابَهُ، يسيل العرق على جبينه، يكره تلك التي تحبّه. وأنا كنت أسلّم جسدي لرغباته كلّها.

- أتمنّى أنّكن، أنتنّ النّساء النّاجيات، ستستمتعن بالحياة أيّما استمتاع!

كان يجد أحياناً في مشاكستي متعةً ماكرةً. لكنّي كنت أردّ له الصّاع صاعين:

- أنا قد مللت من الرّجال أمثالك، ممّن لا يهمّهم سوى اللّعب بجسدي كأنّي هرّة. حبٌّ جدِيٌّ، هو ذا ما أريده!

- حبٌّ جدِيٌّ، أيّ حديث هذا!

- حبٌّ مميّز، إن كنتَ تفضّلُ هذا التّعبير.

- حبٌّ مميّز! تقصدين حباً أفلاطونياً؟

رمش بعينيه مَرَحاً.

- أمّا أنا، فأعلم ما ينتظرني: سيقتادونني للعمل في إحدى جزر المحيط الهادي، ولا ريب في أنّي سأجلد حدّ الموت، لمجرّد أنّي حاولت إغراء إحدى جميلات الحيّ!

- بحقٍ! ما عليك سوى أن تحبّ مواطِنَتك الأهليّةَ تلكَ، حباً أفلاطونياً!

- حسناً! لأنّه علاوةً على ذلك، من المؤكّد أنّي لن يكون لي حظٌ مع الحوريّات!

كانت نقاشاتنا تضيع دائماً في سبابٍ سليط.

في إحدى اللّيالي، وكان فيها ضوء القمر يغمر غرفتَنا، حملَ نومورا جسدي بذراعيه، ووضعه أسفل النّافذة تحت أشدِّ الأشعّة وهجاً، وبدأ في ملاعبته. كان وجهانا مضيئان كما في وضح النّهار؛ كنّا نستطيع أن نستشفّ حتّى هيئة العروق المزرقّة التي تجري أسفل الجلد.

قصّ علي نومورا حكايةً بعيدة، تعود إلى حقبة الهييان[3]. كان الرّجل المفتون بغناء آلة كوتو[4] الطّالع من أعماق الغابة، يزداد توغّلاً أكثر فأكثر في حفيف الصنوبر. داخل سرادق كانت امرأةٌ تعزف على آلة كوتو. استبدّت بالرّجل شهوةٌ عنيفة فانقضّ على جسدها. كانت المرأة ترتدي حجاباً طويلاً، وعلى الرّغم من ضوء القمر ظلّت ملامحها لا تبين. ثمّ لم يعد الرّجل يحلم سوى بأن يلتقي مجدّداً تلك العاشقة التي عرفها ليلةً واحدة. لكنّه حين تعرّف ذات يومٍ على رنّة الكوتو، اكتشف أنّ المرأة لم تكن سوى الإمبراطورة...

- حين ستخسر اليابان، ربّما ستصيرُ بلداً شعرياً. تقول القصيدة: «حين سيخرّب البلد. ستبقى الجبال والأنهار»، لكن ينبغي أن نضيف النّساءَ أيضاً! موسيقى الصنوبر، وضوء القمر، والنّساء. لم يعد اليابانيون يملكون حتّى السقف، ليس لديهم سوى قميص يسترون به ظهورهم، ومع ذلك لك أن تتخيّلي كلّ قصص الحب التي ستولد!

كان نومورا يمسك بين يديه وجهي الغارق في ضوء القمر؛ وما كان يستطيع أن يحيد عنه. يطعن قلبي حنينٌ لا حدَّ له. كنت استشفّ عبر كلّ خليّة من خلايا جسدي، كم كان بمقدور حبّنا، بفضل الحرب والمصير المحتوم الذي تفرضه علينا، أن يكون بريئاً، مفعماً بالطّهارة والأسف والرّقة.

- أنا على استعداد لأن أفعل أيّ شيءٍ لأصير العاشقة التي تحلمُ بها. قُل، ما الذي يتوجّب عليّ فعله لأروقك أكثر؟

- هممم!... أو تعلمين، أنت هكذا جيّدة جداً.

- لكن، مع ذلك، قُل لي! كيف هي المرأة المثالية بالنّسبة لك؟

بعد لحظة صمت أجابني ضاحكاً:

- أقول!... أنت المرأة الأخيرة في حياتي! ليس ثمّة ما هو أشدّ يقيناً من هذا! إنّها النّهاية قطعاً!

احتضنت عنقه دون أن أشعر. كان مستسلماً تماماً. من كان يحسب أنّ إصرار رجلٍ قد يكون مؤثّراً إلى هذا الحد! أه! لو أنّ رجلاً فقط يبدي مثل ذلك الزهد، لوددت أن أبقى عشيقته إلى الأبد. بعينين مغمضتين، أحلم –بكلّ أولئك الشباب الكاميكاز الذين سيكونون مؤثّرين بدرجة لا تقلّ عن نومورا- لا بل إنّهم سيكونون أشدّ تأثيراً منه؛ في النّساء اللّواتي يشتهيهنّ أولئك الكاميكاز، ويغدقن هنّ عليهم من رغباتهنّ؛ أحلم بالطريقة التي يحبون بها بعضهم.

 

لم أتخيّل قطّ أن تنتهي الحرب على هذا النّحو؛ ارتبكت حياتي، كأنّي خُدعتُ. ما عدت أدري أيّ قرارٍ أتّخذ. صحيح أنّ لا أحد كان يعرف القرار الذي ينبغي أن يسلكه، لا الحكومة اليابانيّة ولا الجنود ولا الرّهبان، ولا العلماء، ولا الجواسيس، ولا الحلاّقون، ولا صغار التّجار، ولا الغيشات[5]. فقد السّرعوف صوابه، اشتعل بالفعل غضباً: «ما معنى التوقف هكذا، الآن! كان ينبغي إذن التوقّف قبل أن تحترق طوكيو! ما معنى التوقّف الآن، وعدم الاستمرار حتّى تحترق اليابان بأكملها!» كان يرغب حقاً في أن يرى جميع أهالي البلد وقد حلّت بهم مصائب أكبر من مصيبته! كنت أحسّ بالهول إزاء رغبته الشّريرة التي ما كان يخجل من إظهارها. لكن ينبغي الاعتراف بأنّ الرّغبة نفسها كانت تعتمل بداخلي. كنت أقشعرّ للأمر، وعبثاً حاولت أن أقنع نفسي بأنّ الوضعين ليسا سواء، بيد أنّي كنت أعلم علم اليقين بأنّي مخطئة، ولذلك زاد كرهي للسّرعوف اضطراماً.

شرعت الطّائرات الأمريكية في التّحليق فوق البلاد على علوٍ شديد الانخفاض. كانت طائرات ب 29 تمرّ فوق رؤوسنا وتعاود المرور حتّى انتهى بي المطاف سريعاً إلى أن سئمت مشهدها. كانت مجرّد طائرات من ذوات الأربعة محرّكات، طائرات حسنةُ الهيكل تحملُ أجانبَ بسطاء: ليس ثمّة ما يجمع بينها وبين تلك الآلات الحربية ذات اللّون النحاسيّ المزنجر، التي كانت أيّام الحرب تنبثق فجأةً من الظّلمات على ضوء الكشّافات. تلك الطائرات كانت تعكس نيران الحرب. كانت عشيقاتي، ويقيني بأنّني لن أراها إلى الأبد يتركني في ضيقٍ فظيع. انتهت الحرب! لقد قُذف بها في ماضٍ سحيقٍ لا رجوع منه، ومهما ناضلت لن أستطيع البتّة أن أمسك بها مرّة أخرى.

- حتّى الحربُ نفسها، ليست في نهاية الأمر سوى حلم!

كلّ شيء ربّما ليسَ سوى حلم، بيد أنّ الحرب كانت أكثر من أيّ شيء آخر، حُلماً ملتبساً، حلماً محبطاً، حلماً لا رجعة إليه.

- هوَذا إذن، لقد ماتَ حبّك الأكبر!

كان نومورا يقرأ في أعماق نفسي. أيامٌ وليالٍ متطابقةٌ من حيث تفاهتها، ساعاتٌ ينبغي النّوم فيها، وساعات أخرى للأكل- أيّام ثقيلة ومملّة، مشطورةٌ بعناية إلى قطعٍ، ستتوالى بعضها فوق بعض. وحدها هذه الفكرة تكفي لألعن حظّي الذي لم يجعلني أمُوت بالأحرى أثناء الحرب.

الملل! ليس ثمّة في اعتقادي ما هو أشدّ وطأةً على النّفس. انسقتُ إلى ألعاب القمار، ذهبتُ للرّقص، عربدتُ، لكن في النّهاية لم يبارحني الملل. لم يكن جسدي بالنّسبة لي أكثر من لعبةٍ، وبفضله كنت أضمن عيشي دون أن أحمل همّ المال. النّدم، والعواطف؛ ما كانت تعنيني حقاً تلك الأحاسيس الطبيعيّة. كنت أتهكمّ بشدّة من الإعجاب الذي يُبديه ليَ بعضهم، ولم أكن أسعى إلى أن أكون محبوبة من طرف الرّجال؛ أو بالأحرى، ما كنت أريده هو أن يحبوني، ليس لأبادلهم الحبّ بطريقة أفضل، ولكن حتّى أستطيع أن أعبث بهم. أمّا الحبّ الأبديّ فلم أومن به ولو للحظةٍ. وما كنت أفهم لمَ على المرء أن يكره الحرب. لمَ ينبغي أن نحبّ السّلام.

كان يلزمني أن أعيش مثل النّمور في الأدغال، مثل الدّببة، والثعالب، مثل حيوان الغُرير؛ وأن أحبّ، وألعب، وأشعر بالخوف، وأهرب وأختبئ، وأن أتنفّس دون صوت، وأحبس أنفاسي مثلها؛ أردت أن أعيش بكامل كياني.

اصطحبت نمورا في جولة. كانَ قد أصيب في ساقه وبدأ للتوّ يخطو بعض الخطوات. لم يكن بعدُ يستطيع المشي مطوّلاً، وكان يحتاج أحياناً إلى أن يريح ساقه؛ آنذاك كان يستند إلى كتفي مؤرجحاً ساقه في الفراغ. ثقل جسده يسحقني موجعاً، بيد أنّ الإحساس بهذا الجسد وهو يستند إلى جسدي يُفعم قلبي بما يشبه دفقةَ هواءٍ منعشٍ. العشبُ اجتاح الخرائب.

- لقد دلّلتك كثيراً أيّام الحرب، لكن الآن، سترينَ ما ينتظرك!

- ستبدأ صبيانياتك مرّة أخرى؟!

- لم يعد ثمّة حربٌ، ما الذي تريدينه إذن! لم يعد أمامي سوى أن أتحوّل إلى قنبلة!

- لِتكُن قنبُلةً ذريّة إذن!

- أوه! فقط قنبلة صغيرة، لا يتعدّى مدى انفجارها مائتي كيلومتر.

- إنّي أرى! يبدو أنّك تعرف نفسك حقَّ المعرفة!

ندّت عنه ابتسامة صغيرة. واقفةً في حرارة العشب، ظللتُ ملتصقة به بين الخرائب، وبدا ليَ أنّ هذه اللّحظةَ صارت من الماضي. هو أيضاً لن يصير بعد حين سوى ذكرى. كلّ شيء يمضي في النّهاية. مثل حلم. لا نستطيع أن نحتفظ بشيء بين أصابعنا. وأنا نفسي، من أنا؟ هل أنا سوى ظلِّ نفسي؟ لقد آن النّهار الذي سنفترق فيه على الأرجح. لا أشعر بأيّ أسف حيال هذا الأمر. حين تحرّكنا تحرّك ظلّ جسدَينا. لمَ كلّ شيء باهتٌ إلى هذا الحد؟ مثل هذه الظلال! هذه الظلال؛ فجأة صرت أكرهها بكل ما أوتيت من بأسٍ؛ تملّكني الإحساس بأنّ قلبي سينفجر.                           

 

 



[1]  كتب المترجم الفرنسي كلمة حبّ  Amourبالحرف الكبير A وأكّد الأمر بين قوسين، تأكيداً على أنّ الأمر يتعلّق بالعشق الذي يجمع بين رجلٍ وامرأة، وتمييزاً له عن الحبّ بمعنى عام.

[2]  الزنجار هو صدأ الفضّة والنّحاس.

[3] حقبة من التّاريخ الياباني توافق الفترة الميلاديّة (794-1185)

[4] ضربٌ من القيثار الأفقيّ مؤلّف من ثلاثة عشر وتراً. (من وضع المترجم الفرنسيّ)

[5] الغيشات (مفردها غيشة) فتيات يلعبن دور المضيفات في التقليد الياباني، ويتقنّ أساليب الخطابة وفنون الموسيقى والمسرح والغناء.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

موسيقى بيتهوفن

تانيزاكي- جون إيشيرو الكي-لان (كيران)