عازف البيانو

عازف البيانو
محمد آيت حنّا


"من فرط رهافة أصابع العازف، يتهيّأ لعزف السيمفونية رقم 3 على قيثارة العذارى الميّتات. رهافة أصابعه تنقل سيولات عصبيّة لعمليّات دماغية معقّدة إلى الجدار الذي يعزف لصقه، وبنقرة واحدة لا غير يهشّم مرايا الحضور. وإذ يمنح الجمهور، من الحركات الفظّة، أراضي فلاحية باذخة، يشتعل رأسه (والاشتعال هاجس العازف الدائم)، فيضيء الرأسُ المشتعل الأراضي البور، مثلما ينير هذه الخربشات المكتوبة على حضيرة مسيّجة: أنا أفكّر إذن أنا موجود." (من كتاب العازف، لإيف بونفوا)

ليس قوام عازف البيانو قطعاً في الفعل الموسيقي، وإنّما قوام الفعل الموسيقي في عازف البيانو. عازف البيانو كائن يسكن خطّ التلاشي، هو نفسه لحظة العبور حين لا نعرف متى/أين نُحسبُ على المكان الذي نبرحه والمكان الذي نقصده. انمحاء هوَ للحدود بين ما يُعزف ومن يعزف. أن تشاهد عازف البيانو هو أن تسمع الموسيقا مرئيةً. فيه وحده تنمحي الآلة المعزوفة ليصير العازفُ أداةَ ذاته.
يدخلُ العازفُ (إفني كيسّان؟؟)  دون حضور زائد عن الحضور، مكانه المعدّ سلفاً لا يسمحُ بحركة للقدمين في المجال، حركاته عينها عزفه... له أن يختارَ إيلاء الظهر أو تولية الوجه شطر الجمهور، وأياً يكن فالعين غير معنية بمن يراها (من يراني لا أراه!)، أصابعه ناظمة إيقاع الأجساد، والجسد قوقعة كلّما اشتدّ عودها أثقلت حركةَ الكائن، لذا يفضّل عازف البيانو الجسدَ همْلاً: سجلُّ أمراضٍ هوَ جسدُه ووهنٌ هو نشاطُه، وفي الهالات السوداء حول العين واضطراب خفيف في المشي نتعرّف العازف.
للبيانو أن يروّض أوتار كلّ الآلات ويقطّع أوصال كلّ العازفين إلا عازفَه، فعازفه هو أوصاله نفسها موصولة إلى حبل الموسيقا.. سيّد الآلات هو البيانو مثلما أنّ عازفه سيّد العازفين. صدْر حيثُ هوَ، سواء كان عازفاً منفرداً يستجمع نفيرَ الآلات، أو كان ملحقاً بعازف منفرد.. لا سيّد إلاّه، ضابطاً الوجود والرؤى. وحده يستجلبُ العين ويرتهن الأذن لتستنفر آذانها متحفّزة مترصّدة لحظات القلب/ الانقلاب. 

عازف البيانو هو الموسيقا لا تتكرّر؛ يوزّع راخمانينوف كونشرتاته على سلالم من دخان، إذ تعزفها أصابع كريستيان زكارياس يتكلّس الدخان ليصير حجراً تدكّه المطارق، وإذ تعزفها مارتا أرغرايش يصير الصدى جواب الدخان على الدخان، وإذ يعزفها فلاديمير أشكينازي يصير العزف لا شيء غير أشكينازي يحاكي نبرة أشكينازي، وإذ يعيدها أشكينازي يصير العزف لا شيء غير أشكينازي يخالف نبرة أشكينازي، وإذ يعيدها مرّة أخرى أشكينازي يصير العزف لا شيء غير صورة في المرآة نسيت من كان ينظر إليها أشكينازي الذي يحاكي أشكينازي، أم أشكينازي الذي يخالفُ أشكينازي.. وإذ يعيدها أشكينازي...
عازف البيانو هو ما يصيرُ هو ما سيكونه بعد حين. 
مرتبة العازف مرتبة الظلّ؛ العازف ظلّ يبحثُ لنفسه عن صاحب. يتنّقل الظلّ بين رسوم كثيرة وإذ يعثر على رسم صاحبه لا يبرحه قطّ، ككلب أليف يربض عند قدميه، ذاك حالُ أرتور روبنشتاين الظل الذي تجسّد في موسيقى شوبان، أو غلين غولد الذي لم يبرح مقام باخ.        
ولفرط حساسية الدّور سيختار رومان بولانسكي أدريان برودي لتجسيد دور عازف البيانو البولوني شبيلمان في فيلم "عازف البيانو"، أدريان برودي رهافة عند حدودها القصوى، جسد قويّ الهشاشة وصدوع في النظرة الثاقبة. رهافته هي عينها اختلافه، هو أيضاً ظلّ يبحثُ له عن صاحب.
ومثلما أنّ السّروة بالنسبة لبسام حجّار ليست شجرة وإنّما هي ظلّ الشجرة، عازف البيانو ليس بالعازف هو فقط ظلّ العازف!



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

امرأة والحرب

موسيقى بيتهوفن