ملك وكتابة
قصّة: محمّد آيت حنّا

أعرف مثل جميع من اشتغلوا مع المحقق ويلسون تريفيوس أنّ ليسَ ثمّة ما هو أعقد وأغرب من قضيّة التوأمين الزنجيين برايان فيتش. ولقد ظلّ العجوز الأكرش، الذي حكي ليّ القصّة آلاف المرّات، منذ شاءت الظروف أن التحق بمكتب التحقيقات في شارع بنجمان فرانكلان، يردّد: <<أيها الفتى الصغير (هكذا كان يناديني)، إنّك ما تزال شاباً، أمامك درب طويلة مليئة بالحكايا، ستحكي عشرات الحكايات لكلّ فتاة تواعدها، الحكايا بالمناسبة أقصر الطرق إلى السرير. لكنّك إذ تتقدّم في السن لن يظلّ لك الشغف نفسه بترديد كلّ تلك الحكايات، لن تظلّ لك غير حكاية أو اثنتين تستحّق فعلا أن يتجشّم المرء عناء تذكّرها، عندئذ ستكون محظوظاً إن وجدتَ حكاية تستحق أن تنهي حياتك المهنية بعد أن عايشتها. وإنّي لأحمد أبانا المخلّص أن جعلّني طرفاً في قصّة التوأمين فيتش، لقد كادت تكون جريمة كاملة، بل لعلّها بالفعل جريمة كاملة.>>
تعود وقائع القضية، بحسب المحضر الذي اطّلعت عليه، إلى مساء الخميس من يناير 2007 حيث أقدم برايان فيتش على قتل ويليام نورث إثر مشاجرة تفوح منها رائحة النساء، ولاذ بالفرار. مبدئياً تعتبر القضية إحدى أبسط القضايا التي يمكن التحقيق فيها، فالمرقص الليليّ يتوّفر على كاميرا تسجيل، وقطعاً كان ذاك الذي قتل نورث هو فيتش. وإذا أضفنا إلى شهادة التقنية، التي ناذراً ما تكذب، شهادات من شهدوا الجريمة، لن تبقى ثمّة من ضرورة لأن يزعج المرء نفسه بالتحقيق، اللّهم تلك الإجراءات الزائفة، التي نحاول عبرها إقناع أنفسنا بجدوى وأهمية ما نقوم  به. ولن يكون علينا سوى استصدار أمر بالقبض على فيتش.
 قبل طلوع فجر يوم الجمعة كانت الشرطة قد داهمت منزل آل فيتش وألقت القبض على برايان، الذي ظلّ يصرخ <<طيلة الوقت: إنّه ليس أنا، إنّه أخي برايان>>. لم يأخذ المعتقِلون كلام الفتى مأخذ الجدّ، خصوصاً حين وجدوا في محفظته بطاقة هوّيته وعليها اسمه مختوماً "برايان". غير أن الطريق الذي اتّخذته التحقيقات فيما بعد، كشف عن أنّ الأمور أعقد بكثير ممّا يمكن للمرء أن يتصوّر...

وُلد برايان فيتش في مستشفى بنيروبي سنة 1973 دقيقتين قبل ولادة توأمه برايان. وُلدا معاً في جوّ مشحون بأسباب القطيعة بين الوالدين. وبالفعل تمّت القطيعة ساعات بعد رؤية التوأمين النور. فقد عادت الأم إلى ولاية أوهايو، غير آسفة على ترك الرجل صحبة أحدهما. وأستطيع أن أقول إنّ المثلّث الجهنّمي الذي أوصل العالم إلى جريمة القتل التي صارت حكاية تريفيوس المفضّلة، تشكّلت أضلاعه من ثلاث مواطآت: فأولاً أصرّ كل واحد من الزوجين على أن يسمّي الصبيّ الذي احتفظ به باسم برايان، إذ كانا على اتفاق مسبق بأنّ المولود إن كان صبياً فسيسمّى برايان بينما إن كانت صبيّة فتسمّى مليسّا. تمّ تعميد أحد الصبيّين إذن باسم برايان في كنيسة نيروبي، في الوقت نفسه الذي سجّل توأمه بالاسم نفسه في سجلات ولادات ولاية أوهايو. ثانيا، تواطأت الطبيعة على أن تُخرج للوجود حالة ناذرة من التوأم المتطابق، إذ كان يستحيل استحالة مطلقة الفصل بين الشقيقين فصلاً فزيولوجياً، لدرجّة أنّ بصماتهما نفسها كانت متطابقة. أما التواطؤ الثالث، فاضطلع به الشقيقان نفسهما، حين اجتمعا مرّة أخرى؛ إذ قررا منذ غادر برايان مدينة نيروبي بكينيا بحثا عن نصفه، قرّرا أن يعيشا عيشة رجل واحد. لقد احتاج سكان شارع السبرينغ غاردن بفيلاديلفيا مدّة ليعتادوا ويستوعبوا أنّ اللقطة التي كانت تعاد أمامهم ساعةً بعد الثامنة والنّصف صباحاً، ليست من تلك اللقطات المعادة على شريط اليومي، والتي تعطينا الانطباع بأنّنا نشاهد صور أمور قد سبق أن شهدناها من قبل، إن حقيقة أو حلماً. فعلى الساعة الثامنة والنّصف صباحاً بالضبط، كان يغادر المنزل الشاب الزنجي برايان مرتديا السروال الأسود والبلوفر الأحمر اللذين لا يكاد يغيّرهما، ويتخلّص من كيس القمامة الأسود، قبل أن يقطع عرض الشارع ركضاً باتّجاه سيارته "الكادياك" القديمة، ويغادر تاركاً وراءه سيارة تكاد تكون نسخة من السيارة السابقة. بعد ذلك بساعة بالضبط، يغادر المنزل الشاب الزنجي برايان مرتديا السروال الأسود والبلوفر الأحمر اللذين لا يكاد يغيّرهما، ويتخلّص من كيس القمامة الأسود، قبل أن يقطع عرض الشارع ركضاً باتّجاه سيارته "الكادياك" القديمة التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل من السيارة التي غادر فيها الشاب الزنجي برايان ساعة قبل ذاك. لقد انتهى الجميع إلى الاستيعاب بعد مدّة غير يسيرة إلى أن الأمر يتعلق في الواقع بشخصين، لا شخص واحد، لكنّها مع ذلك ظلا يرتابان في مسألة أن يكون الأمر يتعلّق بتوأمين، وإنّما عزوا الأمر إلى ظاهرة غير طبيعية يمكن أن ينجم عنها ولادة نسخة مطابقة عن صورة أصل... لكنّ الشرطة لا تؤمن إلا بالقرائن الملموسة، لأنّها وحدها لا تُتعب الذهن... لقد تأكدّ بالملموس أنّ الأمر يتعلّق بتوأمين، لكن القرائن التي تشير إلى أنّ أحدهما قد ارتكب جريمة قتل، هي نفسها القرائن التي تبرّئ الآخر.
من قتل ويليام نورث؟ المشكلة العميقة مع التوأمين، هو أنّ لا واحد منهما التزم الصمت، لم يلتزما الصمت، تحدّثا، لكن كل واحد منهما ألصق التهمة بالآخر... عبثاً...  
لقد بدا تواطؤهما على تبادل التهمة والسباب مذهلا، لدرجة لا يمكن معها القول سوى أنّهما كانا ضليعين في خطة منذ نعومة أظافرهما: حياة واحدة مزدوجة... وكأنّ اليدَ التي قيّدت اسم برايان فيتش في مستشفى نيروبي هي نفسها التي سجلت اسم الآخر في ولاية أوهايو وهي نفسها التي خطّت مسارب هذه القصّة التي تدفع ويليام نورث من الحافة، وتسجّل دمه على ذمّة مجهول... عمليّاً ما كان ثمّة من سبيل لمحاكمة أيّ منهما، إذ لا يمكن تمييز القاتل، كما لا يمكن محاكمتها معاً لأنّ القاتل واحد... هل من مخرج لهذه القضية؟ هه؟ يتساءل تريفيوس دائماً قبل أن يقول لازمته التي تلازم هذا المقطع: نصل الآن إلى اللحظة الأكثر إثارة في القصّة... إنّه ذاك الثعلب العجوز "فوكس" الذي لم تصمد قضية أمام نظارتيه... لقد فرض على اللّغز أن يحلّ نفسه بنفسه، لقد حارب التوأمين بسلاحهما... تريد أن تعرفَ كيف؟ هه؟ قل لي.. تريد؟ لقد اتّصل بدءاً بالشرطيين البدينين الذين رأيت أحدهما معي يوم التحقيق في جريمة الرجل الذي أُلقي به من سطح الكازينو، تعرف أنّهما معا توأمان. لقد طلب منهما أن يعيدا اعتقال التوأمين الزنجيين بعدما تمّ اقتيادهما مجدّداً إلى بيتهما. أُعيدَ سيناريو الاعتقال من جديد، واقتاد كلّ واحد من الشرطيين واحداً من التوأمين المجرمين: توأم بتوأم. أثناء فترة الاعتقال المبدئي التي لم تتعدَّ أربعا وعشرين ساعة لم يُسمح لأحد بأن يدخل حيّز تواجد التوأمين. ونشطت الهواتف الفيدرالية في حركة مهولة باحثة عن كلّ توائم الولاية المحتملين لخدمة القضية: لقد ثمّ العثور في وقت قياسي على توأمين مُحققين وتوأم ين سجّانين وتوأمين محامِيين وتوأمين مدّعيين عامين وتوأمين قاضِيين، ولم تضم هيئة المحلفين غير التوائم، حتى الساعي الذي كان يدخل غرفة المحقّق حاملاً القهوة كان توأما لساع آخر يحمل القهوة للمحقق الآخر... كانت التحقيقات والمحاكمات وكلّ التفاصيل تجري في وقت واحد في قاعتين متطابقتين، وتمّ نطق حكم الإدانة في الوقت نفسه... حتى الزنزانتان اللتان استقبلتاهما بعد نطق الحكم كانتا، على تقشّفهما، متطابقتين. 
 
يرفض ضميري قطعاً كون أحدهما يقبع في السّجن ظُلماً، لكنّي أرى المسألة في النّهاية قد سُوّت، وهذا الأهم... القضايا المقفلة وإن انتهت بظُلم خير من القضايا المفتوحة وإن لم تؤذِ أحداً... وفي المحصّلة لم ينتهِ الأمر إلا باستكمال خطّة الأخوين، لقد أكملا مصيرهما الذي أعداه منذ لحظة فراق والديهما، لقد فرضا على العالم أن ينشطر إلى قسمين مثلما شُطرا هما نفسهما من قبل... وفي نهاية المطاف كان على اليدين اللتين دوّنتا اسميهما في سجلات الضيوف على هذا العالم أن تفصحا عن تميّزهما واستقلالهما (أتصوّر إحدى اليدين أخشن وأعمق لوناً!)...

لم يخطئ العجوز الأكرش، فالنّساء يحببن القصص، لكنّي لست حكّاءً ماهراً ولا قصص لي أحكيها، ولا تكاد القصص تعني لي شيئاً، ولست أتمنى غير أن تمضي هذه الحياة بسيطة هادئة، وأن يجنّبني المسيحُ المخلّص الحكايا التي تنهك الذاكرة ويقيني لقاء المسيح الدّجال. آمين.


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

امرأة والحرب

موسيقى بيتهوفن