في فن البورتريه

محمّد آيت حنا

في حُلم رأيتُني بورتريه مسجوناً في إطار لوحة..
كان التلاميذ في المرسم الصيني يتلقّون المعارف العمليّة بحسب ارتقائهم الروحي، ولا أحد بلغ الطور الأخير الذي يكشف له الشيخ الصيني فيه عن سرّه، ذاك أنّه كان يملك لمسة سحرية تحوّل الصُّور إلى أشياء حيّة...
اللّعبة التي انخرط فيها التلاميذ لا تشتملُ على إمكانية رسم البورتريه، درءاً لإحراج المعلم؛ إذ لا إمكانية لتجريب لمسته السحرية على البورتريه: البورتريه اعتقال نهائي، اغتيال نهائي.. صورة نهائية.. لا إمكانية للحياة بعده!!
لا فائدة، لن يُخرجني أحد، سأظلّ معتقلاً داخل إطار اللّوحة!

*****

لن يعترض أحدٌ على فكرة أن يرسم له بيكاسو بورتريه تبدو فيه ملامحه مكعبات ومثلثات، أو أن يجعلهُ دالي مثل شبح خارج من أعماق حلم منحرف، وقد يسعدُ بانسحاق أنفه في أحد أعمال بيكن.. بل حتّى رسوم الأطفال التي تجعلنا أشبه بأوراق مكرمشة لا تزعجنا... لكن حين يتعلّق الأمر بالكتابة تختلف المعايير!!  
المشكلة مع كتابة البورتريه أنّ مادتَها الكلماتُ لا الألوان... الكلمات تجرح!

*****

لسنا نحتاج كثير ذكاء أو خبرة لنميّز بورتريه رسمه بوتتشيلي عن آخر رسمه دي لا فرانشيسكا أو رمبرانت.. لمسة كلّ واحد مختلفة عن الآخر. لا نرسم الشخص نفسه ولو كان الموضوع المرسوم واحداً..  قس عليه كتابة البورتريه.. إن كنت ستتكلّم لتصوّر لنا ما نراه جميعاً وما نعرفه جميعاً، رجاءً اُصمت!

*****
عندما ينسى القرّاء من كُتب عنه البورتريه، ويتذكّرون من كتَبه.. فالبورتريه رائع وعبقري! 
  
*****

دولوز، عبقري تاريخ الفلسفة، لا أحد كتب في تاريخ الفلسفة بجودة ما كتب، مع كلّ فيلسوف يكتبُ عنه نكتشف شيئاً آخر غير الفيلسوف. وحده فهِم أن الكتابة عن الفلاسفة أشبه ما تكون بفن البورتريه، ووحده فهم المعنى العميق للبورتريه، حيث ليس المطلوب وضع نسخة عن الشخص وإنّما المطلوب رسم الشبيه.. شيء كـأنّه الأصل... كتابة الشبيه، هذا أقصى ما يطمح له كاتب البورتريه.. عندما نقرأ بورتريه ونقول: نعم كأنّ الأمر يتعلّق بـزيد، آنذاك يمكن الحديث عن بورتريه، أما عندما نقول: إنّه دون شكّ عمرو، فذاك كلّ شيء سوى البورتريه!

*****

أغلب البورتريهات التي نصادف في تاريخ الفن لا تُنسب إلا إلى من رسمها، أما من تمثّله فلا مكان للحديث عنه.. هكذا لدينا بورتريه شاب بريشة بوتتشيلي، بورتريه فتاة مع غراب بريشة بيكاسو.. من كان الشاب؟ من هي الفتاة؟ من يهمّه الأمر؟؟ ليسوا في الواقع سوى مرآة لتجلّي أسلوب الرّسام...
ألن تكون كتابة البورتريه فرصة لتجلي أسلُوبنا وقدرتنا على التقاط ما لا يراه الآخرون؟؟

*****

فيدياس؛ نحّات ومعماري يوناني من القرن الخامس قبل الميلاد، أحد المحطات البارزة في تاريخ الفن والمعمار.. تنسبُ إليه إحدى عجائب الدنيا السبع/ تمثال الإله زوس.. يُروى أنّه في مسابقة للمثّالين، وكان المطلوب نحت تمثالٍ للإله زوس، نحت تمثالاً أثارَ سخرية كل من شاهده نظراً لعدم تناسق ملامحه. لكن فيدياس أصرّ على حمل تمثاله وتعليقه في المكان المخصص له/ للإله زوس.. عندما تطلّع الملاحظون على التمثال من أسفل، كانت ملامحه واضحة! لقد صُمّم لكي يُنظر إليه من بعيد، شُوهت ملامحه لتُرى متناسقةً عن بعد..
مهما حاولنا تشويه الصورة أو تجميلها، ما على القارئ إلا أن يرجع سنتمترات إلى الخلف ليرى الصورة على حقيقتها.. في المسافة تتضّح الصورة!

*****



بورتريه امرأة  من القرن التاسع عشر:
الصوتُ يختنقُ تحت الفستان. النظرةُ ترافق المصارِعَ. ثمّ،
هي ذي، هي أيضاً، في ساحة المبارزة. هل ستتحرّرُ؟ 
إطارٌ ذهبيٌ 
يحدُّ اللّوحة. 

-توماس ترانسترومر-


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

امرأة والحرب

موسيقى بيتهوفن