في كتابة الحواشي

في كتابة الحواشي
 محمّد آيت حنّا 

نائساً، كقطّ، في حركة محسوبة حول الطاولة الممتدّة حيث تفيض الكتُب.. الطاولة ممتدة كخوان مأدبة. كتبٌ لا شيء يجمع بينها سوى وحدة الثمن: عشرة دراهم.. تبدو الطاولة الممتدة وسط المكتبة كقطعة أرض جادت بها الآلهة على البشر، شرط أن لا تمتد عيونهم إلى الملكوت الآخر.. والملكوت الآخر ليس سوى أرفف رُتّبت عليها الكتب من كلّ الأحجام والأشكال والأثمان... بالعشرين درهماً التي في جيبي لم يكن مسموحاً لي بأكثر من كتابين من مائدة العبيد... سأشتري يومها كتاباً غازل عنوانه غريزة طالب الفلسفة المبتدئ فيّ: كتاب مدخل إلى الماركسية لِهرمان دونكر... كتابٌ بسيطٌ مبنىً ومعنىً، ربّما لأنّه كُتب هناك لتعليم طبقة لا اعتبار لها هنا!؟ أجوس بين أسطر الكتاب، عند أحد السطور تستوقفني علامة الإحالة على الحاشية، في الحاشية شرح جميل يقترب من الحكي الممتع... أقلب الصفحة، تمتدّ الحاشية/ المتعة لتشمل الصفحة كلّها والصفحة التي بعدها... يومها سآخذ درساً حقيقياً في تقدير الحواشي.. الحواشي التي قد تتجاوز قيمتها قيمة المتن نفسه!

*****

لا فائدة... ما دمنا نخلط في التسمية بين الحاشية والهامش.. لن نبلغ عمق النّص!

*****

ليست الحواشي مجرّد ملاحق بالمتن، وظيفتها الشرح أو التعليق أو الإفاضة، إنّما قيمتها قد تتجاوز قيمة النّص نفسه... قد تلحقها كلّ النعوت ما عدا نعت الهامش، إلا إذا كان المقصود بالهامش تلك المساحة المتطرّفة التي تثير الاهتمام أكثر من المركز.. تماماً مثل شريط الأخبار الصغير أسفل الشاشة، الذي يثير الاهتمام أكثر من كلام المذيعة.

*****

يُروى أنّه (الحسن البصري؟!) دخل يوماً حلقةَ مناظرة.. وجلس بين المحتلقين، فقيل لهُ: هلاّ قمت للجلوس في الصدر؟؟ فردّ: أنا صدرٌ حيثُ كنت!
حيثما كانت الكتابة، متناً أو حاشية، بوسعها أن تجعل كلّ النصّ يدور حول سرّها الأعظم.. بوسعها أن تكون صدراً.

*****

ساعياً بدأب إلى خلخلة النّصوص وتفكيكها كان لزاماً على دريدا أن يحدّد موقفه من مكانة الحواشي.. المدهش معه أنّه محا كلّ الفروق وبدّل كلّ الأمكنة.. لم يعد المتن متناً ولا الحاشية حاشية.. وإنّما نصاً واحداً يقرّبهما بقدر ما يباعدهما.. ويجعل فعل الإحالة متبادلاً والمساحات لا معنى لها ولا اعتبار.. من بوسعه أن يحدّد المتن من الحاشية في الدراسة التي خصّ بها أرتُو مثلاً؟

*****

درّبونا في الجامعة على فصل منهجي (لعلّهم ورثوه عن كانط) بين الفلاسفة الذين يعتبرون محطّات أساسية، أولئك الذين يشكّلون متن تاريخ الفلسفة، وبين فلاسفة ما هم إلا حواشي على المتن، محطات ثانوية ليس من الضروري الوقوف عندها... ما نسوا أن يخبرونا به هو التالي: في المحطات الصغرى الثانوية فقط، تقع أعظم الحوادث!

*****

من فرط استعجاله كتب كتاباً دون حواشي.. بعدها أصدر كتاباً هو حاشية على الكتاب الأول!

*****

في معرض مقارنته بين الكتب والعاهرات يحدّد فالتر بنيامين ثلاثة عشر وجها للشبه بينهما... الحواشي المزروعة مثلاً أسفل الكتب هي مثل النقود التي ندسُّها تحت أجساد العاهرات...
لنفكّر الآن، ما الذي تفعله العاهرات بنقود الزبون؟ من المؤكّد أشياء كثيرة، لكنّ جزءاً غير يسير منها يذهب في مصاريف التجمل والاستعداد للزبون القادم.. الحواشي التي لا تجمّل النصّ وتدفع به طوعاً لمعانقة النصوص القادمة، ما فائدتها؟؟

 *****

وهو يعاني سكرة الموت، همس رجلٌ في أذن مارسيليا سيلبا وكشَف لها السرّ الذي حفظه حياته كلّها: إنّ العنبَ مصنوعٌ من الخمر!
حين روت مارسيلا السّر للدّون إدواردو غاليانو، فكّر: إن جاز أنّ العنب مصنوع من الخمر، فمن الممكن أن نكونَ الكلماتِ التي تروي من نحن.
بعدما قرأت غاليانو فكّرتُ: إن كنّا الكلمات التي تروي من نحن.. فربما تكون الحواشي هي المتون التي تشرَحُها الكُتب!




Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

امرأة والحرب

موسيقى بيتهوفن

تانيزاكي- جون إيشيرو الكي-لان (كيران)