الأدب: حقل الاختبار الوحيد الممكن !




الأدب: حقل الاختبار الوحيد الموثوق !
لن يخطئ القارئ التعرف على التحوير الذي أجريناه في الجملة السابقة على عبارة أندريه بروتون "الشارع: حقل الاختبار الوحيد الموثوق". نرمي عبر هذا التحوير فتح الباب أمام جانب من المقاربات الممكنة بين الأدب والفلسفة.
لقد ظلّ السؤال المهيمن على علاقة الأدب والفلسفة خاضعاً طويلاً لإشكال التجنيس. أين الحدود الفاصلة بين الكتابة الفلسفية والكتابة الأدبية؟ وأين يمكن أن نصنّف أعمالا من قبيل "هكذا تكلّم زارادشت" أو "سيدهارتا"؟ إنّ السؤال الكلاسيكي السابق ينحل من ذاته حين نعترف بأنّ الفلسفة قبل أن تكون ممارسة حجاجية أو تواصلية أو مفهومية هي ممارسة أسلوبية. الفلاسفة الكبار هم بالضرورة أسلوبيون كبار. هكذا تصير دراسة فيلسوف ما قاصرةً ما لم تُحِط بممارسته الأسلوبية، تلك الممارسة التي رأى عبرها دريدا في طيف بيان ماركس  الشيوعي تناسخاً مع طيف هاملت شكسبير.
من المؤكد أنّ ثمّة حاجة داخلية في الكتابة الفلسفية لما يمكن أن نسميه الشاهد الاختباري، الذي تصير الأفكار دونه عارية، فليست أمثولة جياجياس (الكتاب الثاني من الجمهورية) لأفلاطون أو نادل سارتر (الوجود والعدم)، مجرد ملحقات عرضية بالكتابة، وكأنّما كان بالإمكان الاستعاضة عنها بشرح مسهب للفكرة التي تمثلها. إنّها، في الواقع، ما يمنح الفكرة دلالة فعلية؛ وكأنّما هي شواهد اختبارية على إمكانية وواقعية الفكرة. بيد أنّه حين يتعلّق الأمر بالأدب، فإنّنا نكون أمام معضلة الحقيقة التخييلية للكتابة، فالكتابة الأدبية عمل تخييلي بالأساس، من هنا يصعب إيرادها بوصفها شاهداً اختبارياً على إمكان الفكرة ما لم ننظر إلى الأدب من زاوية مختلفة، ونمنحه وجوداً حقيقيا بوصفه يحمل الخبرة والشهادة البشرية العميقة.    
ندين لجيل دولوز وفليكس غواتاري كثيراً فيما يخص هذا النوع من الاستعمال للأدب. لقد أنشأ الفيلسوفان (دولوز بدرجة أكبر) علاقة خاصة مع كلّ ما يمكن أن يشكل خطاباً مغايراً للفلسفة (السينما/ الفن التشكيلي/ الأدب...)، غير أنّ علاقتهما بالأدب ظلت علاقة مميّزة. يمكن أن نفصل بين نموذجين من الاشتغال على الأدب عند دلوز وغواتاري: ثمّة الاشتغال الذي نعثر عليه خاصة في العملين "بروست والإشارات" (الذي كتبه دلوز بمفرده) و"كافكا؛ في سبيل أدب للأقليات". ونعثر على النموذج الثاني (وهو الذي يهمّنا بشكل مباشر) مبثوثاً في عدّة أعمال من قبيل "ضدّ أوديب" و"النجود الألف" و"منطق المعنى".
في النموذج الأول ثمّة اشتغال مباشر على متن أدبي. محاولة لرسم خارطة طريق لفهم المتن فهماً مغيراً. فالاشتغال في هذه الحال لا يخص عملاً أدبياً بعينه وإنّما متناً كلياً، يسعى الفيلسوف إلى إعادة قراءته ورسم مسارب بالإمكان سلوكها لإعادة فهم طريق الذاكرة (كما الحال عند بروست) أو لاقتحام قلعة المتن (كما عند كافكا). لم يخرج دولوز في اشتغاله على بروست وكافكا عن التصور الذي اتخذه لنفسه عن الاشتغال على تاريخ الفلسفة حيث يكون المطلوب دوماً رسم بورتريه للفيلسوف، مع ما يستلزمه البورتريه من إقصاء للمطابق وإقحام للشبيه. مع بروست يصير جوهر عمل الذاكرة موجهاً نحو المستقبل لا الماضي (مهما كان إغراء حلاوة مادلين الطفولة)، ومع كافكا تصير الكتابة نوعاً من الصيرورة التي لا يمكن أن تتم إلى داخل وضع أقلية... على أنّ الأهم في التجربتين السابقتين هو الباب المفتوح ما بين فلسفة دولوز نفسه والفهم الذي يقدّمه لهذين المفكرين، بحيث تصير تلك النماذج الأدبية حقول اختبار لمفاهيم دولوز بقدر ما تصير مورداً لمواد اشتغاله. يمكن أن نمثّل بمفهوم "آلة الأدب" الذي ظهر في كتاب "بروست والإشارات" (1970) وتردّد صداه في كتابات لاحقة "كافكا، في سبيل أدب للأقليات (1975) و"ضد أوديب" (1972). مثلما يمكن أن نمثل عكسياً بالمفهوم الثلاثي "التوطن/ التحرر من الموطن/ إعادة التوطن" الذي وُضع في كتاب ضد أوديب، قبل أن يصير لاحقاً وسيلة لفهم متن كافكا.
في النموذج الثاني لا يكون الغرض فهم المتن الأدبي بقدر ما يتعلّق الأمر بالركض حلف الشواهد الاختبارية للفكرة، تلك النماذج الأدبية التي يمكن أن تمنح الفكرة قدراً ما من الوضوح والواقعية. لنا مَثلٌ في جولة الفصامي عند بكيت التي توضح جانباً مهماً من تصور الفصام عند دلوز وغواتاري، والكابتن أخاب وحوته موبيديك اللذين يمنحان نموذجاً عينياً لعملية "التوطن - التحرر من الوطن- إعادة التوطن"، وحالات الصيوروة عند أليس "لويس كارول" التي تكبر إذ تصغر وتصغر إذ تكبر، وتمنح معنى للصيرورات المزدوجة في كتاب "منطق المعنى".
يتطلّب هذا النوع من الاشتغال كما أسلفنا تصوراً مبدئياً للأدب وللإبداع لا يقيم قطيعة ما بين التخييلي والواقعي، وإنّما يقحم ما بينهما قيماً وسطى (وهو الرهان الأساس لكتاب منطق المعنى) تجعل العبور سلساً ما بين السجلين، وتمنح الأدب نفس درجة الصدق والكذب التي يمكن أن يتصف بها الواقع.
سيدفع نيكولا غريمالدي بهذا الشكل من التفكير إلى حدوده القصوى، فالفيلسوف الفرنسي المعاصر الذي أخذ على عاتقه مهمة سبر أغوار الأهواء البشرية (الحب/ الغيرة/ الوحدة/ اللّعب/ الانتظار...) لا يستقي شواهده الاختبارية من الواقع المباشر أو التجربة اليومية، وإنّما من السجلات الأدبية الكبرى بوصفها تختزل التجربة البشرية الأعمق. في كتبه "تناسخات الحب"، و"بروست، فظاعات الحب"، و"بحث في الغيرة، عن جحيم بروست"... لا يتمّ الالتفات للشخصيات الأدبية باعتبارها مجرد نماذج تخيلية وإنّما كذوات تتمتّع بوجود تاريخي فعلي. ذاك هو الشكل الذي يتعامل به مثلاً مع أنطونيو دوريغو والفتاة التي كانت تمتهن الدعارة وتعرّف عليها في أحد أزقّة ميلانو، في رواية دينو بوزاتي الشهيرة "عشق".
لا يقصي هذا الاشتغال عن الأدب أدبيته، بيد أنّه يمنحه مرتبة واقعية شديدة العمق، باعتباره الحقل الاختباري الوحيد الممكن، لأنّه لا يمثل حالة واقعية وإنّما جماع الخبرات البشرية التي تراكمت لتتجسّد في نماذج أدبية وحدها تستطيع أن تمنحنا دلالة واقعية وتترك أثراً من وجودنا العرضي في هذا العالم.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

امرأة والحرب

موسيقى بيتهوفن

تانيزاكي- جون إيشيرو الكي-لان (كيران)